فصل: تفسير الآيات رقم (47- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 19‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏عسى ربكم أن يرحمكم‏}‏ يعني يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم ‏{‏وإن عدتم‏}‏ أي إلى المعصية ‏{‏عدنا‏}‏ أي إلى العقوبة‏.‏ قال قتادة فعادوا فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم‏:‏ فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ‏{‏وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً‏}‏ أي سجناً ومحبساً من الحصر الذي هو مجلس الحبس، وقيل‏:‏ فراشاً من الحصير الذي يبسط ويفترش‏.‏ قوله تعالى ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ أي إلى الطريقة التي هي أصوب وقيل‏:‏ إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهاة أن لا إله إلا الله ‏{‏ويبشر‏}‏ يعني القرآن ‏{‏المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً‏}‏ يعني الجنة ‏{‏وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً‏}‏ يعني النار في الآخرة ‏{‏ويدع الإنسان‏}‏ أي على نفسه وولده وماله ‏{‏بالشر‏}‏ يعني قوله عند الغضب‏:‏ اللهم أهلكه اللهم العنه ونحو ذلك ‏{‏دعاءه بالخير‏}‏ أي كدعائه ربه أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك، ولكن الله لا يستجيب بفضله وكرمه ‏{‏وكان الإنسان عجولاً‏}‏ أي بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه، وقال ابن عباس‏:‏ ضجراً لا صبر له على سّراء ولا ضراء‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وجعلنا الليل والنهار آيتين‏}‏ أي علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا وفي معنى الآية قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، وهو أنه جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدنيا والدين، أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير مع كونهما متعاقبين على الدوام ففيه أقوى دليل على أن لهما مدبراً يدبرهما، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا، فلأن مصالح العباد لا تتم إلا بهما ففي الليل يحصل السكون، والراحة وفي النهار يحصل التصرف في المعاش والكسب‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن يكون المراد وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر ‏{‏فمحونا آية الليل‏}‏ أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموساً مظلماً لا يستبان فيه شيء ‏{‏وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏ أي تبصر فيه الأشياء رؤية بينة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جعل الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءاً، فجعلها مع نور الشمس وحكي أن الله أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات، فطمس عليه الضوء وبقي فيه النور وسأل ابن الكواء علياً عن السواد الذي في القمر، فقال هو أثر المحو ‏{‏لتبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ أي لتتوصولوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم، والتصرف في معايشكم ‏{‏ولتعلموا‏}‏ أي باختلاف الليل والنهار ‏{‏عدد السنين والحساب‏}‏ أي ما يحتاجون إليه ولولا ذلك، لما علم أحد حساب الأوقات ولتعطلت الأمور، ولو ترك الله الشمس والقمر، كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يعرف وقت الحج ولا وقت حلول الديون المؤجلة‏.‏

واعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب‏:‏ الساعات والأيام والشهور والسنين، فالعدد للسنين والحساب لما دونها من الشهور والأيام والساعات، وليس بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار ‏{‏وكل شيء فصلناه تفصيلاً‏}‏ يعني وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم ودنياكم قد بينّاه بياناً شافياً واضحاً غير ملتبس قيل‏:‏ إنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وكل ذلك تفضل منه فلا جرم قال، وكل شيء فصلناه تفصيلاً قوله عز وجل ‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان‏.‏ وقيل‏:‏ خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به‏.‏ وقيل‏:‏ ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقيل‏:‏ أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليهم من سعادة أو شقاوة، وقيل‏:‏ هو من قولك طار له سهم إذا خرج يعني ألزمناه ما طار له من عمله لزوم القلادة أو الغل، لا ينفك عنه والعنق في قوله في عنقه كناية عن اللزم كما يقال‏:‏ جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق والغل مما يزين أو يشين فإن كان عمله خيراً كان له كالقلادة أو الحلي في العنق وهو ما يزينه، وإن كان عمله شراً كان له كالغلّ في عنقه وهو ما يشينه ويخرج له بقول تبارك وتعالى ‏{‏ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً‏}‏ قيل‏:‏ بسطت للإنسان صحيفتان وووكل به ملكان يحفظان عليه حسناته وسيئاته‏.‏ فإذا مات طويت الصحيفتان، وجعلتا معه في عنقه فلا ينشران إلا يوم القيامة ‏{‏اقرأ كتابك‏}‏ أي يقال له‏:‏ اقرأ كتابك قيل يقرأ يوم القيامة من لم يكن قارئاً ‏{‏كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ أي محاسباً قال الحسن‏:‏ لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك، وقيل‏:‏ يقول الكافر إنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي‏.‏ فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها‏}‏ يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، وعقاب الذنب مختص بفاعله أيضاً، ولا يتعدى منه إلى غيره وهو قوله تعالى ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى من الآثام، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد بل كل أحد مختص بذنبه ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ لإقامة الحجة وقطعاً للعذر وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل‏.‏

قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها‏}‏ في معنى الآية قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية يدل على أنه تعالى بماذا أمرهم فقال أكثر المفسرين‏:‏ معناه أنه تعالى أمرهم بالأعمال الصالحة، وهي الإيمان والطاعة وفعل الخير والقوم خالفوا ذلك الأمر وفسقوا‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أمرنا مترفيها أي كثرنا فساقها‏.‏ يقال أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج والنسل فعلى هذه قوله تعالى أمرنا ليس من الأمر بالفعل‏.‏ والمترف هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش ‏{‏ففسقوا فيها‏}‏ أي خرجوا عما أمرهم الله به من الطاعة ‏{‏فحق عليها القول‏}‏ أي وجب عليها العقاب ‏{‏فدمرناها تدميراً‏}‏ أي أهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب ‏(‏ق‏)‏، عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول‏:‏ «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها‏.‏ قالت زينب‏:‏ قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث» قوله‏:‏ ويل للعرب‏.‏ ويل كلمة تقال‏:‏ لمن وقع في هلكة، أو أشرف أن يقع فيها وقوله إذا كثر الخبث أي الشر قوله تعالى ‏{‏وكم أهلكنا من القرون‏}‏ أي المكذبة ‏{‏من بعد نوح‏}‏ وهم عاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية يخوف الله بذلك كفار قريش‏.‏ قال عبد الله بن أبي أوفى‏:‏ القرن عشرون ومائة سنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن ويزيد بن معاوية في آخره‏.‏ وقيل‏:‏ القرن مائة سنة وروي عن محمد بن القاسم بن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال‏:‏ «سيعيش هذا الغلام قرناً» قال محمد ابن القاسم‏:‏ ما زلنا نعد له حتى تمت له مائة سنة ثم مات‏.‏ وقيل‏:‏ القرن ثمانون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أربعون ‏{‏وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً‏}‏ يعني أنه عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏من كان يريد العاجلة‏}‏ أي الدار العاجلة يعني الدنيا ‏{‏عجلنا له فيها ما نشاء‏}‏ أي من البسط أو التقتير ‏{‏لمن نريد‏}‏ أن نفعل به ذلك أو إهلاكه، وقيل في معنى الآية‏.‏ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي القدر الذي نشاء نعجله له في الدنيا، الذي يشاء هو ولمن نريد أن نعجل له شيئاً، قدرناه له هذا ذم لمن أراد بعمله ظاهر الدنيا ومنفعتها وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قدر له، ‏{‏ثم جعلنا له‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏جهنم يصلاها‏}‏ أي يدخلها ‏{‏مذموماً مدحوراً‏}‏ أي مطروداً مباعداً‏.‏

قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها‏}‏ أي عمل لها عملها ‏{‏وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏ أي مقبولاً قيل‏:‏ في الآية ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً إرادة الآخرة بعمله بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت، وعن بعض السلف الصالح‏.‏ من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 25‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كلا نمد هؤلاء وهؤلاء‏}‏ أي نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا، ومن يريد الآخرة ‏{‏من عطاء ربك‏}‏ يعني يرزقها جميعاً ثم يختلف الحال بهما في المآل ‏{‏وما كان عطاء ربك محظوراً‏}‏ أي ممنوعاً عن عباده والمراد بالعطاء العطاء في الدنيا إذ لا حظ للكافر في الآخرة ‏{‏انظر‏}‏ يا محمد ‏{‏كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ أي في الرزق والعمل يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة ‏{‏وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً‏}‏ يعني أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا، كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب الدنيا فلأن تقوى وتشتد رغبته في طلب الآخرة أولى، لأنها دار المقامة‏.‏ قوله تعالى ‏{‏لا تجعل مع الله إلهاً آخر‏}‏ الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقيل معناه لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلهاً آخر وهذا أولى ‏{‏فتقعد مذموماً‏}‏ أي من غير حمد ‏{‏مخذولاً‏}‏ أي بغير ناصر‏.‏ قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك‏}‏ أي وأمر ربك‏.‏ قاله ابن عباس‏:‏ وقيل معناه وأوجب ربك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه الحكم والجزم‏.‏ وقيل‏:‏ ووصى ربك‏.‏ وحكي عن الضحاك أنه أنه قرأها ووصى ربك وقال‏:‏ إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصار قافاً وهي قراءة علي وابن مسعود‏.‏ قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير هذا القول بعيد جداً لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ‏{‏ألاَّ تعبدوا إلا إياه‏}‏ فيه وجوب عبادة الله، والمنع من عبادة غيره وهذا هو الحق لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله، فكان هو المستحق للعبادة لا غيره ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ أي وأمر بالوالدين إحساناً أي براً بهما وعطفاً عليهما وإحساناً إليهما ‏{‏إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما‏}‏ معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف، والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الجملة، كلف الإنسان في حق الوالدين خمسة أشياء‏:‏ الأول قوله تعالى ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ وهي كلمة تضجَّر وكراهية، وقيل‏:‏ إن أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد، ونفخت فيه تزيله تقول‏:‏ أف ثم إنهم توسعوا بذكر هذه الكلمة إلى كل مكروه يصل إليهم‏.‏ والثاني‏:‏ قوله ‏{‏ولا تنهرهما‏}‏ أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال‏:‏ نهره وانتهره بمعنى‏.‏

فإن قلت‏:‏ المنع من التأفيف أبلغ من المنع من الانتهار فما وجه الجمع قلت‏:‏ المراد من قوله ولا تقل لهما أف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير، والمراد من قوله ولا تنهرهما، المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليها‏.‏ الثالث‏:‏ قوله ‏{‏وقل لهما قولاً كريماً‏}‏ أي حسناً جميلاً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل‏:‏ هو يا أماه يا أبتاه وقيل‏:‏ لا يكنيهما وقيل‏:‏ هو أن يقول لهم كقول العبد الذليل المذنب للسيد الفظ الغليظ‏.‏ الرابع‏:‏ قوله عز وجل ‏{‏واخفض لهما جناح الذل‏}‏ أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه ‏{‏من الرحمة‏}‏ أي من الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك، كما كنت في حال الصغر مفتقراً إليهما‏.‏ الخامس‏:‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا‏}‏ أي وادع الله لهما أن يرحمهما برحمته الباقية، وأراد به إذا كانا مسلمين فأما إذا كانا كافرين فإن الدعاء منسوخ في حقهما بقوله سبحانه وتعالى ‏{‏ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى‏}‏ وقيل‏:‏ يجوز الدعاء لهما بأن يهديهما الله إلى الإسلام فإذا هداهما فقد رحمهما‏.‏ وقيل في معنى هذه الآية‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى بالغ في الوصية بهما حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تسوؤهما وأن يذل، ويخضع لهما ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما‏.‏

فصل

في ذكر الأحاديث التي وردت في بر الوالدين، ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي‏؟‏ قال‏:‏ أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك» ‏(‏م‏)‏ عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «رغم أنفه، رغم أنفه قيل من يا رسول الله‏؟‏ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة» ‏(‏م‏)‏ عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه» ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد‏:‏ فقال‏:‏ أحيّ والداك قال‏:‏ نعم قال ففيهما فجاهد» وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «رضا الرب من رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين» أخرجه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً قال‏:‏ هو أصح عن أبي الدرداء قال «فإن شئت فضيع ذلك الباب أو احفظه»

أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث صحيح ‏(‏م‏)‏ «عن عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الصلاة لوقتها قلت، ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله تعالى» قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ربكم أعلم بما في أنفسكم‏}‏ أي من بر الوالدين، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير، عدم عقوقهما ‏{‏إن تكونوا صالحين‏}‏ أي أبراراً مطيعين قاصدين الصلاح والبر بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، أو غيرهما أو قبل فرط منكم في حال الغضب، وعن حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر مما يؤدي إلى أذاهما ثم أنبتم إلى الله، واستغفرتم مما فرط منكم ‏{‏فإنه كان للأوابين‏}‏ للتوابين ‏{‏غفوراً‏}‏ قال سعيد بن جبير في هذه الآية‏:‏ هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بهما‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ الأواب الذي يذنب ثم يتوب وعنه أنه الرجاع إلى الخير‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الأواب الرجاع إلى الله فيما يحزنه، وينوبه وعنه أنهم المسبحون‏.‏ وقيل‏:‏ هم المصلون وقيل هم الذين يصلون صلاة الضحى يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم‏.‏ قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أخرجه مسلم قوله‏:‏ إذا رمضت الفصال يريد ارتفاع الضحى وأن تحمى الرمضاء وهو الرمل بحر الشمس فتبرك الفصال من الحر وشدة إحراقه أخفافها‏.‏ والفصال جمع فصيل وهي أولاد الإبل الغار وقيل‏:‏ الأوّاب الذي يصلي بين المغرب والعشاء يدل عليه ما روي عن ابن عباس‏:‏ إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوّابين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 38‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل‏}‏ قيل‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله سبحانه وتعالى أن يؤتي أقاربه حقوقهم وقيل‏:‏ إنه خطاب للكل وهو أنه سبحانه وتعالى، وصى بعد بر الوالدين بالقرابة أن يؤتوا حقهم من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وقيل إن كانوا محاويج، وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏ وقال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ لا تلزم النفقة إلا لوالد على ولده أو ولد على والديه فحسب وقيل‏:‏ أراد بالقرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الكلام على المسكين وابن السبيل ‏{‏ولا تبذر تبذيراً‏}‏ أي لاتنفق مالك في المعصية‏.‏ وقيل‏:‏ لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً ولو أنفق درهماً أو مداً في باطل كان مبذراً‏.‏ وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال‏:‏ إنفاق المال في غير حقه‏.‏ وقيل‏:‏ هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف وقيل‏:‏ إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير ‏{‏إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‏}‏ يعني أولياءهم وأصدقاءهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف، وقيل‏:‏ أمثالهم في الشر وهذا غاية المذمة لأنه أشر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم‏:‏ هو أخوهم ‏{‏وكان الشيطان لربه كفوراً‏}‏ أي جحوداً للنعمة فما ينبغي أن يطاع لأنه يدعو إلى مثل عمله‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وإما تعرضن عنهم‏}‏ نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزلت هذه الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ وإن تعرض عن هؤلاء الذي أمرت أن تؤتيهم ‏{‏ابتغاء رحمة من ربك ترجوها‏}‏ أي انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك ‏{‏فقل لهم قولاً ميسوراً‏}‏ أي ليناً جميلاً أي عدهم وعداً طيباً، تطيب به قلوبهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏}‏ قال جابر‏:‏ أتى صبي فقال يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعاً ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبي‏:‏ من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا وقتاً آخر فعاد إلى أمه فقالت‏:‏ قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً فأذن بلال بالصلاة، وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي لا تمسك يدك عن النفقة في الحق والخير كالمغلولة يده لا يقدر على مدها ‏{‏ولا تبسطها‏}‏ أي بالعطاء ‏{‏كل البسط‏}‏ أي فتعطي جميع ما عندك‏.‏

وقيل‏:‏ هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء المسرف أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ‏{‏فتقعد ملوماً‏}‏ أي عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده، وقيل ملوماً عند نفسك وأصحابك أيضاً يلومونك على تضييع المال بالكلية وقيل‏:‏ يلومك سائلوك على الإمساك إذا لم تعطهم ‏{‏محسوراً‏}‏ أي منقطعاً لا شيء عندك تنفقه وقيل‏:‏ محسوراً أي نادماً على ما فرط منك‏.‏ ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأن ذلك ليس لهوان بك عليه ولا لبخل منه عليك فقال تعالى ‏{‏إن ربك يبسط‏}‏ أي يوسع ‏{‏الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ أي يقتر ويضيق، وذلك لمصلحة العباد ‏{‏إنه كان بعباده خبيراً بصيراً‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوال جميع عباده، وما يصلحهم فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية مصالح العباد‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ أي فاقة وفقر ‏{‏نحن نرزقهم وإياكم‏}‏ وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة أو يخافون عليهم من النهب والغارات، أو أن ينكحوهن لغير أكفاء لشدة الحاجة وذلك عار شديد عندهم فنهاهم الله عن قتلهن وقال نحن نرزقهم وإياكم، يعني أن الأرزاق بيد الله فكما أنه فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتحه على النساء ‏{‏إن قتلهم كان خطئاً كبيراً‏}‏ أي إثماً كبيراً ‏{‏ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة‏}‏ أي قبيحة زائدة على حد القبح ‏{‏وساء سبيلاً‏}‏ أي بئس طريقاً طريقه، وهو أن تغصب امرأة غيرك أو أخته أو بنته من غير سبب والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله تعالى قيل‏:‏ إن الزنا يشتمل على أنواع من المفاسد منه المعصية وإيجاب الحد على نفسه ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل وذلك يوجب خراب العالم‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق‏}‏ الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، وحل القتل إنما ثبت بسبب عارض، فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل، وهي الأسباب العرضية فقال إلا بالحق أي إلا بإحدى ثلاث كما روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث‏:‏ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»

أخرجاه في الصحيحين ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سطاناً‏}‏ أي قوة وولاية على القاتل بالقتل وقيل‏:‏ سطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا ‏{‏فلا يسرف في القتل‏}‏ أي الولي قال بان عباس‏:‏ لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتل أشرف منه‏.‏ وقيل معناه إذا كان القتيل واحداً فلا يقتل به جماعة بل بواحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفاً فلا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه، وقيل معناه أن لا يمثل بالقاتل ‏{‏إنه كان منصوراً‏}‏ قيل الضمير راجع للمقتول ظلماً يعني أنه منصور في الدنيا بايجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وايجاب النار لقاتله، وقيل‏:‏ الضمير راجع إلى ولي المقتول معناه‏:‏ إنه كان منصوراً على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية وقيل في قوله‏:‏ فلا يسرف في القتل أراد به القاتل المعتدي بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي القتيل منصور عليه باستيفاء القصاص منه‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏ أي الطريقة التي هي أحسن، وهي تنميته وحفظه عليه ‏{‏حتى يبلغ أشده‏}‏ وهو بلوغ النكاح والمراد ببلوغ الأشد كمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله، وإلا لم ينفك عنه الحجر ‏{‏وأوفوا بالعهد‏}‏ أي الإتيان بما أمر الله والانتهاء عما نهي عنه وقيل‏:‏ أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه ‏{‏إن العهد كان مسؤولاً‏}‏ أي عنه وقيل مطلوباً وقيل‏:‏ العهد يسأل فيقال فيم نقضت كالموؤدة تسأل فيم قتلت‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وأفوا الكيل إذا كلتم‏}‏ المراد منه إتمام الكيل ‏{‏وزنوا بالقسطاس المستقيم‏}‏ قيل هو ميزان صغيراً كان أو كبيراً، من ميزان الدراهم إلى ما هو أكبر منه وقيل‏:‏ هو القبان قيل هو رومي وقيل‏:‏ سرياني والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل أي وزنوا بالعدل المستقيم، واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم، فوجب على العاقل الاحتراز عنه وإنما الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعياً في إبقاء الأموال على أربابها ‏{‏ذلك خير وأحسن تأويلاً‏}‏ أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه أمره‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولا تقفُ‏}‏ أي ولا تتبع ‏{‏ما ليس لك به علم‏}‏ أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا ترم أحداً بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل‏:‏ هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن ‏{‏إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً‏}‏ معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل يسأل السمع البصر والفؤاد، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها‏.‏

عن شكل بن حميد قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا نبي الله علمني تعويذاً أتعوذ به قال‏:‏ فأخذ بيدي ثم قال‏:‏ «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي‏.‏ وقال حديث حسن غريب‏.‏ قوله‏:‏ وشر منيي يعني ماءه وذكره‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحاً‏}‏ أي بطراً وكبراً وخيلاء ‏{‏إنك لن تخرق الأرض‏}‏ أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها ‏{‏ولن تبلغ الجبال طولاً‏}‏ أي لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي يمشي مختالاً يمشي مرة على عقبيه، ومرة على صدور قدميه فقيل له‏:‏ إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولاً إن مشيت على صدور قدميك‏.‏ عن علي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب‏.‏ أخرجه الترمذي في الشمائل‏.‏ قوله تكفؤاً‏:‏ التكفوء التمايل في المشي إلى قدام، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفوء أي كأنه ينحدر من موضع عال، عن أبي هريرة قال‏:‏ ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع من مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا‏.‏ وإنه لغير مكترث‏.‏ أخرجه الترمذي‏.‏ قوله‏:‏ لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان ‏{‏كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهاً‏}‏ أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف قيل‏:‏ سيئة مع قوله مكروهاً‏؟‏ قلت‏:‏ قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروهاً سيئة عند ربك وقوله‏:‏ مكروهاً على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 46‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه الآيات ‏{‏مما أوحى إليك ربك من الحكمة‏}‏ أي إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل لا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار‏.‏ وقيل‏:‏ إن حاصل هذه الآيات يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع البر والطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك من الحكمة‏.‏ قيل‏:‏ إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها‏:‏ ولا تجعل مع الله إلهاً آخر‏.‏ قال الله سبحانه وتعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، واعلم أن الله سبحانه وتعالى‏:‏ افتتح هذه الآيات بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وختمها به، والمقصود منه التنبيه على أن كل قول وعمل يجب أن يكرر في التوحيد لأنه رأس كل حكمة، وملاكها ومن عدمه لم ينفعه شيء ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً وقال في هذه الآية ‏{‏ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً‏}‏ والفرق بين المذموم والملوم أما كونه مذموماً فمعناه، أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً ثم يقال له‏:‏ لم فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه، وهذا هو اللوم والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏أفأصفاكم ربكم‏}‏ يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة ‏{‏بالبنين‏}‏ يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون ‏{‏واتخذ من الملائكة إناثاً‏}‏ لأنهم كانوا يقولون‏:‏ الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول ‏{‏إنكم لتقولون قولاً عظيماً‏}‏ يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن‏}‏ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير ‏{‏ليذكروا‏}‏ أي ليتعظوا ويعتبروا ‏{‏وما يزيدهم‏}‏ أي تصريفنا وتذكيرنا ‏{‏إلا نفوراً‏}‏ أي تباعداً عن الحق ‏{‏قل‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ‏{‏لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا‏}‏ أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة ‏{‏إلى ذي العرش سبيلاً‏}‏ أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لتقربوا إليه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح، ثم نزه نفسه فقال عز وجل ‏{‏سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً‏}‏ معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن‏}‏ يعني الملائكة والإنس والجن ‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وإن من شيء حي إلا يسبح‏.‏ وقيل‏:‏ جميع الحيوانات والنباتات‏.‏ قيل‏:‏ إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح‏.‏ وقيل‏:‏ إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح‏.‏ وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح ما دام جديداً فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل‏:‏ كل الأشياء تسبح الله حيواناً كان أو جماداً وتسبيحها‏:‏ سبحان الله وبحمده، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال‏:‏ كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال‏:‏ «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال‏:‏ حي على الطهور المبارك، والبركة من الله» فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل‏.‏ أخرجه البخاري ‏(‏م‏)‏ عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن بمكة حجراً كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن» ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عمر قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه» وفي رواية «فنزل فاحتضنه وسارَّه بشيء» ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح، وقال بعض أهل المعاني‏:‏ تسبيح السموات والأرض، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأولاد أصح كم دلت عليه الأحاديث، وأنه منقول عن السلف‏.‏ واعلم أن لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم ‏{‏إنه كان حليماً غفوراً‏}‏ أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً‏}‏ أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به، وقيل‏:‏ معناه مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ «لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب معها حجر والنبي صلى لله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر‏:‏ أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر‏:‏ ما رأتك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ «لا لم يزل ملك بين وبينها» ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏ أي أغطية ‏{‏أن يفقهوه‏}‏ أي لئلا يفهموه ‏{‏وفي آذانهم وقراً‏}‏ أي ثقلاً لئلا يسمعوه ‏{‏وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده‏}‏ يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن ‏{‏ولَّوا على أدبارهم نفوراً‏}‏ جمع نافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 57‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به‏}‏ أي من الهزء بك وبالقرآن وقيل‏:‏ معناه نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو التكذيب ‏{‏إذ يستمعون إليك‏}‏ أي وأنت تقرآ القرآن ‏{‏وإذا هم نجوى‏}‏ أي بما يتناجون به في أمرك، وقيل‏:‏ معناه ذوو نجوى بعضهم يقول‏:‏ هو مجنون وبعضهم يقول هو كاهن وبعضهم يقول ساحر أو شاعر ‏{‏إذ يقول الظالمون‏}‏ يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه ‏{‏إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ أي مطبوباً وقيل مخدوعاً وقيل‏:‏ معناه أنه سحر فجن‏.‏ وقيل‏:‏ هو من السحر وهو الرئة، ومعناه أنه بشر مثلكم يأكل ويشرب قال الشاعر‏:‏

أرانا موضعين لأمر غيب *** ونسخر بالطعام وبالشراب

أي يغذى بهما ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏}‏ أي الأشباه فقالوا‏:‏ ساحر شاعر كاهن مجنون ‏{‏فضلّوا‏}‏ أي في جميع ذلك وحاروا ‏{‏فلا يستطيعون سبيلاً‏}‏ أي إلى طريق الحق ‏{‏وقالوا أئذا كنا عظاماً‏}‏ أي عبد الموت ‏{‏ورفاتاً‏}‏ أي تراباً وقيل‏:‏ الرفات هي الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر ‏{‏أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً‏}‏ فيه أنهم اسعبدوا الإعادة بعد الموت والبلى‏.‏ فقال سبحانه وتعالى رداً عليهم ‏{‏قل‏}‏ أي قل يا محمد ‏{‏كونوا حجارة‏}‏ أي في الشدة ‏{‏أو حديداً‏}‏ أي في القوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيزي أي استشعروا في قلوبكم، أنكم حجارة أو حديد في القوة ‏{‏أو خلقاً مما يكبر في صدوركم‏}‏ قيل‏:‏ يعني السماء والأرض والجبال لأنها أعظم المخلوقات‏.‏ وقيل‏:‏ يعني به الموت لأنه لا شيء في نفس ابن آدم أكبر من الموت، ومعناه لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم ‏{‏فسيقولون من يعيدنا‏}‏ أي من يبعثنا بعد الموت ‏{‏قل الذي فطركم‏}‏ أي خلقكم ‏{‏أول مرة‏}‏ فمن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة ‏{‏فسينغضون إليك رؤوسهم‏}‏ أي يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بما تقول ‏{‏ويقولون متى هو‏}‏ يعني البعث والقيامة ‏{‏قل عسى أن يكون قريباً‏}‏ أي هو قريب ‏{‏يوم يدعوكم‏}‏ أي من قبوركم إلى موقف القيامة ‏{‏فتستجيبون بحمده‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بأمره وقيل بطاعته وقيل مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد، وقيل‏:‏ هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين ‏{‏وتظنون إن لبثتم‏}‏ أي في الدنيا وقيل في القبور ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ وذلك لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر ألوفاً من السنين، عد ذلك قليلاً بنسبة مدة القيامة والخلود في الآخرة، وقيل‏:‏ إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل‏.‏ وقل لعبادي يقولوا يعني للكفار التي هي أحسن، أي لا يكافئوهم على سفههم بل يقولون لهم يهديكم الله وكان هذا قبل الإذن في القتال والجهاد‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أنه شتمه بعض الكفار، فأمره الله بالعفو‏.‏ وقيل‏:‏ أمر الله المؤمنين أن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله ‏{‏إن الشيطان ينزغ بينهم‏}‏ أي يفسد ويلقي العداوة بينهم ‏{‏إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً‏}‏ أي ظاهر العداوة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ربكم أعلم بكم ‏{‏إن شاء يرحمكم‏}‏ أي يوفقكم للإيمان فتؤمنوا ‏{‏أو إن يشأ يعذبكم‏}‏ أي يميتكم على الشرك فتعذبوا، وقيل معناه إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم أي يسلطهم عليكم ‏{‏وما أرسلناك عليهم وكيلاً‏}‏ أي حفيظاً وكفيلاً قيل‏:‏ نسختها آية القتال ‏{‏وربك أعلم بمن في السموات والأرض‏}‏ يعني أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، ويعلم حال كل أحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد وقيل‏:‏ معناه أنه عالم بأحوالهم واختلاف صورهم وأخلاقهم ومللهم وأديانهم ‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض‏}‏ وذلك أنه اتخذ إبراهيم خليلاً وكلم موسى تكليماً، وقال لعيسى‏:‏ كن فكان وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبوراً وذلك قوله تعالى ‏{‏وآتينا داود زبوراً‏}‏ وهو كتاب أنزله الله على داود يشتمل على مائة وخمسون سورة، كلها دعاء وثناء على الله تعالى وتحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم خص داود في هذه الآية بالذكر دون غيره من الأنبياء‏؟‏ قلت‏:‏ فيه وجوه‏:‏ أحدها أن الله ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض ثم قال تعالى‏:‏ وآتينا داود زبوراً وذلك أن داود أعطي من النبوة الملك، فلم يذكره بالملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أن الفضل المذكور في هذه الآية المراد به العلم لا الملك والمال‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى كتب له في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم فلهذا خصه بالذكر‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ أن اليهود زعمت أن لا نبي بعد موسى، ولا كتاب بعد التوراة فكذبهم الله بقوله‏:‏ وآتينا داود زبوراً ومعنى الآية أنكم لن تنكروا تفضيل النبيين، فكيف تنكرون تفضيل النبي صلى الله عليه سلم وإعطاءه القرآن وأن الله آتى موسى التوراة، وداود الزبور وعيسى الأنجيل فلم يبعد أن يفضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق ‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏}‏ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دونه‏}‏ وذلك أن الكفار أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم فقال الله عز وجل‏:‏ قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه ‏{‏فلا يملكون كشف الضر عنكم‏}‏ أي الجوع والقحط ‏{‏ولا تحويلاً‏}‏ أي إلى غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر، ومقصود الآية الرد على المشركين، حيث قالوا ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله فنحن المقربين إليه، وهم الملائكة‏.‏

ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة وقد اشتغلوا بعبادته فاحتج على بطلان قولهم بهذه الآية وبين عجز آلهتهم ثم قال تعالى ‏{‏أولئك الذين يدعون‏}‏ أي الذين يدعون المشركون آلهة ‏{‏يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏}‏ أي القربة والدرجة العليا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية‏.‏ قوله تعالى ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ معناه، ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل‏:‏ أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة ‏{‏ويرجون رحمته‏}‏ أي جنته ‏{‏ويخافون عذابه‏}‏ وقيل‏:‏ معناه يرجون ويخافون كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة ‏{‏إن عذاب ربك كان محذوراً‏}‏ أي حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب، ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم من الخلائق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 64‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله سحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة‏}‏ أي بالموت والخراب ‏{‏أو معذبوها عذاباً شديداً‏}‏ أي بالقتل وأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا، وقيل‏:‏ الإهلاك في حق المؤمنين الإماتة وفي حق الكفار العذاب قال عبد الله بن مسعود‏:‏ إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها ‏{‏كان ذلك في الكتاب‏}‏ أي في اللوح المحفوظ ‏{‏مسطوراً‏}‏ أي مكتوباً مثبتاً‏.‏ عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن أو ما خلق الله القلم فقال له‏:‏ اكتب فقال‏:‏ ما أكتب‏:‏ قال‏:‏ القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد» أخرجه الترمذي‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون‏}‏ قال ابن عباس «سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم» فأنزل الله عز وجل ‏{‏وما منعنا أن نرسل الآيات‏}‏ أي التي سألها الكفار قومك ‏{‏إلا أن كذب بها الأولون‏}‏ أي فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم، لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا فقال تعالى ‏{‏وآتينا ثمود الناقة مبصرة‏}‏ أي بينة، وذلك لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم ‏{‏فظلموا بها‏}‏ أي جحدوا أنها من عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ فظلموا أنفسهم بتكذيبها فعاجلناهم بالعقوبة ‏{‏وما نرسل بالآيات‏}‏ المقترحة ‏{‏إلا تخويفاً‏}‏ أي وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً من العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وما نرسل بالآيات يعني العبر والدلالات، إلا تخويفاً إي إنذاراً بعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا فإن الله سبحانه وتعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وإذ قلنا لك‏}‏ أي واذكر يا محمد إذ قلنا لك ‏{‏إن ربك أحاط بالناس‏}‏ أي إن قدرته محيطة بهم فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وإذا كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره وهو حافظك ومانعك منهم، فلا تهبهم وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة، فهو ينصرك ويقويك على ذلك ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏}‏ الأكثرون من المفسرين على أن المراد ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من العجائب والآيات‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه سلم ليلة المعراج وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس أخرجه البخاري‏.‏ وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم‏.‏ والعرب تقول‏:‏ رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكانت فتنة للناس، وازداد المخلصون إيماناً‏.‏ وقال قوم‏:‏ أسري بروحه دون جسده وهو ضعيف‏.‏ وقال قوم كان له معراجان‏:‏ معراج رؤية عين في اليقظة ومعراج رؤيا منام‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل، فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه في ذلك العام بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم، ثم دخل مكة في العام المقبل وأنزل الله عز وجل لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وقيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك‏.‏ فإن اعترض معترض على هذا التفسير وقال السورة مكية وهاتان الواقعتان كانتا بالمدينة أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك بمكة، ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة ‏{‏والشجرة الملعونة في القرآن‏}‏ يعني شجرة الزقوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافات والعرب تقول لكل طعام كريه‏:‏ طعام ملعون والفتنة فيها أن أبا جهل قال‏:‏ إن ابن أبي كبشة يعني النبي صلى الله علي وسلم توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنه تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجر‏.‏ وقيل‏:‏ إن عبد الله بن الزبعري قال‏:‏ إن محمداً يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال أبو جهل‏:‏ يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بزبد وتمر فقال يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد، فأنزل الله سبحانه وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر ‏{‏إنا جعلناها فتنة للظالمين‏}‏ الآيات‏.‏ فإن قلت‏:‏ أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن، قلت‏:‏ لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز‏.‏ وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة، وقال ابن عباس‏:‏ في رواية عنه إن الشجرة الملعونة هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر والشوك فيجففه ‏{‏ونخوفهم فما يزيدهم‏}‏ أي التخويف ‏{‏إلا طغياناً كبيراً‏}‏ أي تمرداً وعتواً عظيماً قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً‏}‏ أي من طين وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي ‏{‏قال‏}‏ يعني إبليس ‏{‏أرأيتك‏}‏ الكاف للمخاطب والمعنى أخبرني ‏{‏هذا الذي كرمت علي‏}‏ أي فضلته ‏{‏لئن أخرتن‏}‏ أي أمهلتني ‏{‏إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته‏}‏ أي لأستأصلنهم بالاضلال‏.‏

وقيل‏:‏ معناه لأقودنهم كيف شئت‏.‏ وقيل‏:‏ لأستولين عليهم بالإغواء ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ يعني المعصومين الذي استثناهم الله تعالى في قوله ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ ‏{‏قال‏}‏ الله تعالى ‏{‏اذهب‏}‏ أي امض لشأنك وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء ‏{‏فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم‏}‏ أي جزاؤك وجزاء أتباعك ‏{‏جزاء موفوراً‏}‏ أي مكملاً‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏واستفزز‏}‏ أي استخفف واستزل واستعجل وأزعج ‏{‏من استعطت منهم‏}‏ أي من ذرية آدم ‏{‏بصوتك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بصوتك الغناء والمزامير واللهو واللعب ‏{‏واجلب عليهم بخيلك ورجلك‏}‏ أي أجمع عليهم مكايدك وحبائلك، واحثثهم على الإغواء‏.‏ وقيل‏:‏ معناه استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم‏.‏ يقال‏:‏ إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس فكل من قاتل أو مشى في معصية الله، فهو من جند إبليس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك ‏{‏وشاركهم في الأموال والأولاد‏}‏ أما المشاركة في الأموال فكل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، وقيل هو الربا، وقيل‏:‏ هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم ويحرمونه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام‏.‏ وأما المشاركة في الأولاد فروي عن ابن عباس أنها الموؤدة، وقيل‏:‏ أولاد الزنا‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً هي تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد الحارث وعبد شمس ونحوه، وقيل‏:‏ هو أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة الكاذبة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ونحوها‏.‏ وقيل إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل وقت الجماع فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما نزل الرجل‏.‏ وروي في بعض الأخبار أن فيكم مغربين قال‏:‏ ما المغربون قال‏:‏ الذين شارك فيهم الجن‏.‏ وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال‏:‏ إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال‏:‏ ذلك من وطء الجن ‏{‏وعدهم‏}‏ أي منهم الجميل في طاعتك، وقيل‏:‏ قل لهم لا جنة ولا نار ولا بعث، وذلك أن الشيطان إذا دعا المعصية فلا بد أن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعلها البتة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال له لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، فيقرر عند المدعو أنه لا مضرة في هذه المعاصي وإذا فرغ من هذا النوع قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في الدنيا إلا به، فهذا طريق الدعوة إلى المعصية ثم ينفره عن فعل الطاعات وأنه يقرر عنده أن لا جنة ولا نار ولا عقاب فلا فائدة فيها‏.‏

وقيل معنى عدهم أي شفاعة الأصنام عند الله وإيثار العاجل على الأجل‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف ذكر الله هذه الأشياء بصيغة الأمر، والله سبحانه وتعالى يقول‏:‏ إن الله لا يأمر بالفحشاء‏؟‏ قلت‏:‏ هذا على طريق التهديد كقوله تعالى‏:‏ اعلموا ما شئتم‏.‏ وكقول القائل اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏ أي يزين الباطل بما يظن أنه حق واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما قال‏:‏ وعدهم، أردفه بما هو زاجر عن قبول وعده بقوله‏:‏ ما يعدهم الشيطان إلا غرورا والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى قضاء الشهوة وطلب الرياسة ونحو ذلك، ولا يدعو إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى عبادته وتلك الأشياء التي يدعو إليها خيالية لا حقيقة لها ولا تحصل إلا بعد متاعب ومشاق عظيمة، وإذا حصلت كانت سريعة الذهاب والانقضاء وينغصها الموت والهرم وغير ذلك، وإذا كانت هذه الأشياء بهذه الصفة كانت الرغبة فيها غروراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 69‏]‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ يعني بعبادة الأنبياء وأهل الفضل الصلاح لأنه لا يقدر على إغوائهم ‏{‏وكفى بربك وكيلاً‏}‏ أي حافظاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه سبحانه وتعالى لما أمكن إبليس أن يأتي بما يقدر عليه من الوسوسة كان ذلك سبباً لحصول الخوف في قلب الإنسان، قال تعالى ‏{‏وكفى بربك وكيلاً‏}‏ أي فالله سبحانه وتعالى أقدر منه وأرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان ووساوسه، ويعصمهم من إغوائه وإضلاله‏.‏ وفي بعض الآثار أن إبليس لما خرج إلى الأرض قال‏:‏ يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال‏:‏ أنت مسلط‏.‏ قال‏:‏ لا أستطيعه إلا بك فزدني‏.‏ قال‏:‏ استفزز من استطعت منهم الآية‏.‏ فقال آدم‏:‏ يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال‏:‏ لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال رب زدني قال‏:‏ التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد قال رب زدني فقال يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية‏.‏ وفي الخبر قال إبليس‏:‏ يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قراءتي‏؟‏ قال‏:‏ الشعر‏.‏ قال‏:‏ فما كتابي‏؟‏ قال‏:‏ الوشم، قال‏:‏ ومن رسلي‏؟‏ قال الكهنة‏.‏ قال‏:‏ أي شيء مطعمي‏؟‏ قال ما لم يذكر عليه اسمي قال فما شرابي قال كل مسكر قال‏:‏ وأين مسكني‏؟‏ قال الحمامات قال وأين مجلسي‏؟‏ قال في الأسواق قال‏:‏ وما حبائلي قال‏:‏ النساء قال‏:‏ وما أذاني‏؟‏ قال المزمار‏.‏ قوله ‏{‏ربكم الذين يزجي‏}‏ أي يسوق ويجري ‏{‏لكم الفلك‏}‏ أي السفن ‏{‏في البحر لتبتغوا من فضله‏}‏ أي لتطلبوا من رزقه بالأرباح في التجارة وغيرها ‏{‏إنه كان بكم رحيماً‏}‏ أي حيث يسر لكم هذه المنافع، والمصالح وسهلها عليكم ‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر‏}‏ أي الشدة وخوف الغرق في البحر ‏{‏ضل من تدعون‏}‏ أي ذهب من أوهامكم وخواطركم كل من تدعون في حوادثكم من الأصنام وغيرها ‏{‏إلا إياه‏}‏ أي أجاب دعاءكم لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره لأنه القادر على إعانتكم ونجاتكم ‏{‏فلما نجاكم‏}‏ أي أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وشدته وأخرجكم ‏{‏إلى البر أعرضتم‏}‏ أي عن الإيمان والإخلاص والطاعة، وكفرتم النعمة وهو قوله تعالى ‏{‏وكان الإنسان كفوراً‏}‏ أي جحوداً ‏{‏أفأمنتم‏}‏ أي بعد إنجائكم ‏{‏أن يخسف بكم جانب البر‏}‏ أي تغوره‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الجهات كلها له، وفي قدرته براً كان أو بحراً بل إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء ‏{‏أو يرسل عليكم حاصباً‏}‏ أي نمطر عليكم حجارة من السماء، كما أمطرناها على قوم لوط ‏{‏ثم لا تجدوا لكم وكيلاً‏}‏ أي مانعاً وناصراً ‏{‏أم أمنتم أن يعيدكم فيه‏}‏ أي في البحر ‏{‏تارة‏}‏ أي مرة ‏{‏أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي عاصفاً وهي الريح الشديدة‏.‏

وقيل‏:‏ الريح التي تقصف كل شيء من شجر وغيره ‏{‏فيغرقكم بما كفرتم‏}‏ أي بكفرانكم النعمة وإعراضكم حين أنجيناكم ‏{‏ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً‏}‏ التبيع المطالب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنا نفعل ما نفعل بكم ثم لا تجدون لكم أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً لكم ودركاً للثأر من جهتنا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه من يتبعنا بالإنكار علينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كرمنا بني آدم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وقال أيضاً بالعقل وقيل بالنطق والتمييز والخط والفهم، وقيل باعتدال القامة وامتدادها وقيل بحسن الصورة وقيل‏:‏ الرجل باللحى والنساء بالذوائب‏.‏ وقيل‏:‏ بتسليطهم على جميع ما في الأرض وتسخيره لهم وقيل‏:‏ بحسن تدبيرهم أمر المعاش والمعاد‏.‏ وقيل بأن منهم خير أمة أخرجت للناس ‏{‏وحملناهم في البر‏}‏ أي على الإبل والخيل والحمير ‏{‏والبحر‏}‏ أي وحملناهم في البحر على السفن، وهذا من مؤكدات التكريم لأن الله تعالى سخر لهم هذه الأشياء لينتفعوا بها، ويستعينوا بها على مصالحهم ‏{‏وزرقناهم من الطيبات‏}‏ يعني لذيذ المطاعم والمشارب وقيل الزبد والتمر والحلواء، وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى، وقيل‏:‏ إن جميع الأغذية إما نباتية وإما حيوانية ولا يتغذى الإنسان إلا بأطيب القسمين بعد الطبخ الكامل والنضج التام ولا يحصل هذا لغير الإنسان ‏{‏وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً‏}‏ واعلم أن الله تعالى قال في أول الآية‏:‏ ولقد كرمنا بني آدم وفي آخرها وفضلناهم، ولا بد من الفرق بين التكريم والتفضيل والإلزام التكرار والأقرب أن يقال‏:‏ إن الله تعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية ذاتية طبيعية، مثل العقل والنطق والخط وحسن الصورة، ثم إنه سبحانه وتعالى عرفه بواسطة ذلك العقل والفهم اكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل‏.‏ ثم قال سبحانه وتعالى‏:‏ على كثير ممن خلقنا تفضيلاً‏.‏ ظاهر الآية يدل على أنه فضل بني آدم على كثير ممن خلق لا على الكل فقال‏:‏ قوم فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة وهذا مذهب المعتزلة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزائيل وأشباههم‏.‏ وقيل‏:‏ فضلوا على جميع الخلائق وعلى الملائكة كلهم‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف تصنع بكثير‏؟‏ قلت‏:‏ يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى ‏{‏يلقون السمع وأكثرهم كاذبون‏}‏ أراد كلهم وفي الحديث عن جابر يرفعه قال‏:‏ «لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا، ولنا الآخرة فقال‏:‏ لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» وقيل بالتفضيل وهو الأولى والراجح أن خواص بني آدم وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر من بني آدم، وهذا التفضيل إنما هو بين الملائكة والمؤمنين من بني آدم لأن الكفار لا حرمة لهم قال الله سبحانه وتعالى ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية‏}‏ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة الذين عنده‏.‏

وقوله عز وجل ‏{‏يوم ندعو كل أناس بإمامهم‏}‏ أي بنبيهم وقيل بكتابهم الذي أنزل عليهم، وقيل بكتاب أعمالهم وعن ابن عباس‏:‏ إمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إما إلى هدى وإما إلى ضلالة وذلك أن كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر‏.‏ وقيل‏:‏ بمعبودهم وقيل بإمامهم جمع أم يعني بأمهاتهم والحكمة فيه رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم‏}‏ فإن قلت‏:‏ لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم، مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضاً‏.‏ قلت‏:‏ الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم، وجدوه مشتملاً على مشكلات عظيمة فيستولي عليهم الخجل والدهشة فلا يقدرون على إقامة حروفه فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأصحاب اليمين إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على الحسنات والطاعات فيقرؤونه أحسن قراءة وأبينها ‏{‏ولا يظلمون فتيلاً‏}‏ أي ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 76‏]‏

‏{‏وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏ومن كان في هذه أعمى‏}‏ المراد عمى القلب والبصيرة لا عمى البصر‏.‏ والمعنى‏:‏ ومن كان في هذه الدنيا أعمى، أي عن هذه النعم التي قد عدها في هذه الآيات ‏{‏فهو في الآخرة‏}‏ أي التي لم تعاين ولم تر ‏{‏أعمى وأضل سبيلاً‏}‏ قاله ابن عباس‏:‏ وقيل معناه ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي أشد عمى وأضل سبيلاً، أي أخطأ طريقاً‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ومن كان في الدنيا كافراً ضالاً، فهو في الآخرة أعمى لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل تبوته، قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك‏}‏ قيل في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش وقالوا‏:‏ لا ندعك حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه ما علي أن أفعل ذلك، والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعوني أستلم الحجر‏.‏ وقيل طلبوا منه أن يذكر آلهتهم حتى يسلموا، ويتبعوه فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قد وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال‏.‏ قال‏:‏ وما هن‏؟‏ قالوا‏:‏ لا نحبي في الصلاة أي لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم، فذلك لكم وأما الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها» قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرها فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله تعالى وإن كادوا أي هموا ليفتنونك أي ليصرفونك عن الذي أوحينا إليك ‏{‏لتفتري‏}‏ أي لتختلق وتبتعث ‏{‏علينا غيره‏}‏ ما لم تقله ‏{‏وإذاً‏}‏ أي لو فعلت ما دعوك إليه ‏{‏لاتخذوك خليلاً‏}‏ أي والوك ووافوك وصافوك ‏{‏ولولا أن ثبتناك‏}‏ أي على الحق بعصمتنا إياك ‏{‏لقد كدت تركن‏}‏ أي تميل ‏{‏إليهم شيئاً قليلاً‏}‏ أي قربت من الفعل‏.‏ فإن قلت كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه‏.‏ قلت‏:‏ كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزماً وقد عفا الله تعالى عن حديث النفس وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين»

والجواب الصحيح هو أن الله سبحانه وتعالى قال ولولا أن ثبتناك وقد ثبته الله فلم يركن إليهم ‏{‏إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات‏}‏ أي لو فعلت لأذقناك عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ‏{‏ثم لا تجد لك علينا نصيراً‏}‏ أي ناصراً يمنعك من عذابنا‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها‏}‏ قيل‏:‏ هذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة، وذلك حسداً فأتوه فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم السلام، فإن كنت نبياً مثلهم فأت الشام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافة الروم، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه، فيخرج فأنزل الله هذه الآية فالأرض هنا أرض المدينة، وقيل الأرض أرض مكة والآية مكية والمعنى‏:‏ همّ المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالخروج للهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية‏.‏ وقيل‏:‏ همّ المشركون كلهم وأرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله ولم ينالوا منه ما أملوه والاستفزاز الازعاج ‏{‏وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً‏}‏ إي لا يبقون بعد إخراجك إلا زماناً قليلاً حتى يهلكوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا‏}‏ يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم وأن لا يعذبهم مادام نبيهم بينهم فإذا خرج من بين أظهرهم عذبهم ‏{‏ولا تجد لسنتنا تحويلاً‏}‏ أي تبديلاً‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ وروي عن ابن معسود أنه قال الدلوك الغروب وهو قول النخعي ومقاتل والضحاك والسدي‏.‏ قال ابن عباس وابن عمر وجابر‏:‏ هو زوال الشمس‏.‏ وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين‏.‏ ومعنى اللفظ‏:‏ يجمعهما، لأن أصل الدلوك الميل والشمس‏:‏ تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين‏:‏ لكثرة القائلين به وإذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر ‏{‏إلى غسق الليل‏}‏ أي ظهور ظلمته وقال ابن عباس‏:‏ بدو الليل وهذا بتناول المغرب والعشاء ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ يعني صلاة الفجر سمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلا بالقرآن ‏{‏إن قرآن الفجر كان مشهوداً‏}‏ أي يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ‏(‏خ‏)‏‏.‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهوداً‏.‏ قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره‏:‏ هذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان، إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القرآن وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء، وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الإسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل، فلا يحصل المعنى المذكور في الآية فثبت أن قوله تعالى ‏{‏إن قرآن الفجر كان مشهوداً‏}‏ دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ومن الليل فتهجد به‏}‏ أي قم بعد نومك، والتهجد لا يكون إلا بعد القيام من النوم‏.‏ والمراد من الآية قيام الليل للصلاة، وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى ‏{‏يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه‏}‏ ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخاً في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى ‏{‏فاقرؤوا ما تيسر منه‏}‏ وبقي الوجوب ثابتاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى ‏{‏نافلة لك‏}‏ أي زيادة لك يريد فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«ثلاث هن عليّ فريضة وهن سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل» وقيل‏:‏ إن الوجوب صار منسوخاً في حقه كما في حق الأمة‏:‏ فصار قيام الليل نافلة لأن الله سبحانه وتعالى قال‏:‏ نافلة لك ولم يقل عليك‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما معنى التخصيص إذا كان زيادة في حق المسلمين كما في حقه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قلت‏:‏ فائدة التخصيص أن النوافل كفارات لذنوب العباد والنبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت له نافلة وزيادة في رفع الدرجات‏.‏

فصل

في الأحاديث الواردة في قيام الليل ‏(‏ق‏)‏ عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انفتحت قدماه فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏؟‏ قال‏:‏ أفلا أكون عبداً شكوراً» ‏(‏م‏)‏ عن زيد بن خالد الجهني‏:‏ قال لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقال فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلَّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة لفظ أبي داود ‏(‏ق‏)‏، «عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان‏؟‏ قالت‏:‏ ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من أحدى عشر ركعة يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة‏:‏ فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة‏:‏ إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي» ‏(‏ق‏)‏ عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه سلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد، ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة» ‏(‏خ‏)‏ عنها قالت‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏ «قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرآ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب، إلا وقف وتعوذ ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه‏.‏

سبحانه ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرآ سورة النساء «أخرجه أبو داود النسائي‏.‏» عن عائشة قالت‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة «أخرجه الترمذي ‏(‏ق‏)‏ عن الأسود قال‏:‏» سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج «عن أنس قال‏:‏» ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه «أخرجه النسائي‏.‏ زاد في رواية غيره قال‏:‏» وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئاً ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئاً «وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏ أجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب وذلك لأن لفظه عيسى تفيد الإطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم أحرمه كان ذلك عاراً عليه والله أكرم من أن يطمع أحداً ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه‏.‏ والمقام المحمود هو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبات دعوتي شفاة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً «‏(‏م‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة «‏(‏م‏)‏ عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة «‏(‏ع‏)‏ عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك وفي رواية فيلهمون لذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول‏:‏ لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقول لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً فيأتون إبراهيم، فيقول‏:‏ لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله، وأعطاه التوراة قال فيأتون موسى فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول‏:‏ لست هناكم ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏.‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيأتوني فأستأذن على ربي تعالى فيؤذن لي فإذا أنا رأيته، وقعت ساجداً فيدعني ما شاء فيقول‏:‏ يا محمد ارفع رأسك قل تسمع سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي‏:‏ ارفع يا محمد رأسك قل تسمع، سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود «

وفي رواية البخاري ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، قال وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم زاد في رواية «فقال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» قال يزيد بن زريع في حديث شعبة ذرة وفي رواية من إيمان مكان خير، وفي حديث معبد بن هلال العنزي عن أنس في حديث الشفاعة، وذكر نحوه وفيه فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فانطلق فافعل قال فلما خرجنا من عند أنس، مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال‏:‏ هيا، فقلنا‏:‏ لم يزدنا على هذا فقال لقد حدثني، وهو يومئذ جميع منذ عشرين سنة كما حدثكم، ثم قال‏:‏ ثم أعود في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجداً فيقال لي يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال‏:‏ ليس ذلك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله‏.‏

قوله‏:‏ وهو يومئذ جميع أي مجتمع الذهن والرأي‏.‏ عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيد لواء الحمد، ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر قال فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا اشفع لنا إلى ربك فيقول‏:‏ إني أذنبت ذنباً عظيماً فأهبطت به إلى الأرض ولكن ائتوا نوحاً فيأتون نوحاً فيقول‏:‏ إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول‏:‏ إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دينه الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول قد قتلت نفساً ولكن ائتوا عيسى فيأتون عيسى فيقول‏:‏ إني عبدت من دون الله ولكن ائتوا محمداً فيأتوني فأنطلق بهم» قال‏:‏ ابن جدعان‏:‏ قال أنس فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه سلم قال فآخذ بحلقة باب فأقعقعها، فيقال من هذا‏؟‏ فيقال‏:‏ محمد فيفتوحون لي ويقولون مرحباً فأخرج ساجداً فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏.‏ قال سفيان‏:‏ ليس عن أنس غير هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فاقعقعها فيقال‏:‏ من هذا فيقال محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون‏:‏ مرحباً فأخر ساجداً فيلهمني الله من الثناء والحمد «أخرجه الترمذي‏.‏ قوله‏:‏ ماحل المماحلة‏:‏ المخاصمة المجادلة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام خاصم وجادل عن دين الله بتلك الألفاظ التي صدرت منه‏.‏ قوله‏:‏ فاقعقعها أي أحركها حركة شديدة والقعقعة حكاية أصوات الترس وغيره مما له صوت‏.‏ عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا ولواء حمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر «أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي‏:‏ وأنا مستشفعهم إذا حبسوا الكرامة، والمفاتيح يومئذ بيدي يطوف علي خدم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» زاد الترمذي، قال‏:‏ «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكس حلقة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش فليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري» عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيشفع ليقضي بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيؤمئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده فيه أهل الجمع كلهم ‏(‏م‏)‏ عن يزيد بن صهيب قال‏:‏ كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال‏:‏ فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله جالس إلى سارية يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي تحدثونه والله يقول إنك من تدخل النار فقد أخزيته وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، فما هذا الذي تقولون قال‏:‏ أتقرأ القرآن‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فاقرأ ما قبله إنه في الكفار ثم قال فهل سمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله فيه قلت‏:‏ نعم قال فإن مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك‏.‏ قال غيره أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها‏.‏ قال‏:‏ يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه، فيخرجون منه كأنهم القراطيس فرجعنا فقلنا ويحكم أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعنا فلا والله ما خرج غير رجل واحد أو كما قال، والأحاديث في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو ابن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة‏.‏ وروى أبو وائل عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق عليه‏.‏ ثم قرأ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً قال يقعده على العرش‏.‏ وعن مجاهد مثله وعن عبد الله بن سلام قال يقعد على الكرسي‏.‏